انتقدت الكاتبة إيمان القويفلي في مقالها بصحيفة "الوطن" الأسبوع الماضي ما آل إليه حال تدريس التاريخ في مراحل التعليم بالمملكة، لقد أحاطت بالموضوع بشكل محكم، ووضعت يدها ويد القارئ وعقله على مكمن الخلل، وأوضحت كيف أن الطالب وبعد 9 أعوام من دراسة التاريخ يخرج في النهاية جاهلا بالعالم من حوله، بل ربما متعصباً ضده.
وفق المنهج الحالي يدخل الطالب السعودي الجامعة دون أن يكون مدركا للتحولات المفصلية المهمة التي صنعت التاريخ الحديث والواقع الذي يعيشه كل يوم، فلم يسمع عن "الثورة الصناعية" التي صنعت التفوق التقني الغربي والمجتمعات الأخرى التي تبنتها، ولا يدرك أن إهمال العالم الإسلامي لهذه الثورة هو الذي أحكم دائرة التخلف والضعف عليه وليس التآمر الغربي، كما يؤمن الطالب الذي يتمتع في الوقت نفسه بنتائج هذه الثورة في المنتجات الغربية التقنية التي يستخدمها من السيارة إلى مشغل الأغاني المدمج الذي يضعه في أذنيه، ويهز رأسه بعنف على أنغامه.
يخرج الطالب دون أن يعرف شيئاً عن "حركة الإصلاح الديني والسياسي" التي عصفت بأوروبا، وصنعت واقعها اليوم ومعها العالم الذي تفاعل معها، ودون أن يعرف شيئاً عن "حركة الكشوف الجغرافية" وهي التي قلبت موازين القوة والنفوذ، فأغنت البعض وأفقرت آخرين، ونقلت مركز القوة من عالم إلى آخر، كما لا يعرف الكثير عن نشأة "المنظمات الدولية وحركة حقوق الإنسان" التي بات العالم يحتكم إليها أو هي تتحكم فيه، ومن ذلك العالم الذي يعيش فيه طالبنا البائس دون أن يعرف أنه بائس، وقد قيل إن الإنسان عدو ما يجهل فأصبح هذا الطالب عدوا لهذا العالم الذي يجهله، فيتقبل بسرعة نظرية الفسطاطين اللذين لا لقاء بينهما، حتى لو لم يتقبل صاحبها. سيقول البعض إنني أبالغ وأحمل الأمر ما لا يحتمل، ولكن انظروا حولكم في مقالات الصحف والتعليقات العفوية على شاشات التلفزة، وستجدون تصريحات تصر على حتمية الصراع الأبدي بيننا وبين الغرب، مثل قول الدكتور حمود ضاوي القثامي في ختام مقال له في صحيفة "المدينة" الخميس الماضي: إن الغرب لم يتخل خلال تاريخه الطويل عن معاداة الإسلام بشكل أو بآخر، وكل الذي يفعله فقط هو تجديد الخطط القديمة والثوابت التي يحافظ عليها ويجددها ويرممها كلما لزم الأمر تحت أي عذر أو أي مبرر (استعمار - وصاية - صداقة - شراكة - دمار شامل - محاربة إرهاب- إحلال الديمقراطية... والقائمة طويلة). إنها مجرد خطط قديمة تتغير وتتلون، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الدكتور الشاب، إلا أنه عبر بصدق عما درسه ونشأ عليه. إنه وغيره نموذج لنجاح مناهج التاريخ والعقيدة التي حكمت عقول أبنائنا خلال العقدين الأخيرين.
أما نحن من ننتقد هذه المناهج فإننا من نتاج مرحلة ما قبل ما أسميه حركة "التصحيح العقدي والحضاري" التي ضربت مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا منذ منتصف الثمانينيات، وتربعت منفردة على الساحة بعد حرب الخليج الثانية، ومثلما تتذكر الدكتورة ريما الجرف، صاحبة الدراسة العلمية عن الخلل في تدريس مادة التاريخ عندنا، أنها درست تاريخ أوروبا في مناهجنا السعودية في السبعينيات الهجرية، فإنني لا زلت أتذكر درسا حول "مارتن لوثر" وحركته الإصلاحية الدينية في أوروبا القرن السادس عشر، ونقاشاً بيني وبين أستاذي في التاريخ قارنا فيه بين أوجه الشبه في الإصلاح الديني عندهم وعندنا. وقد استعدت ذكريات ذلك الدرس قبل أسابيع أثناء زيارة لأقدم كاثدرائية في بريطانيا بمدينة "درم" التي لا تزال تحمل آثار طمس وتكسير تماثيل القديسين، وكان ذلك من فعل "حركة الإصلاح الديني" التي شكلت الكنيسة الإنجليزية الحالية. ألا يلاحظ القارئ هنا أن ثمة تشابهاً بين تجارب الأمم؟ وهو ما سنستفيد منه لو اطلع الباحث على التطور الثقافي والحضاري للأمم الأخرى ما يجعلنا أكثر استعداداً للقبول ببعضنا بعضاً. إنني متأكد من أنه لو كان الدكتور عبد الله العثيمين مؤلف معظم كتب التاريخ الدراسية السعودية معنا في جامعة "درم" لوجد الكثير الذي يتحدث فيه مع أسقف الكاثدرائية.
لقد درس جيلنا وبقدر من الانفتاح، ما يدرسه اليوم أي طالب حول العالم عن الحضارات العالمية وتاريخ الأمم والشعوب المختلفة، وفجأة اختفى كل ذلك، فما الذي حصل؟
أتمنى أن أسمع جواباً من الجهابذة الذين كانوا خلف عملية تغيير المناهج وفرض عملية "التصحيح العقدي والحضاري" ولكنهم لن يكلفوا أنفسهم عناء الرد على مقالي أو مقال السيدة القويفلي، ناهيك عن أن يوافقونا على ما ذهبنا إليه فيقروا بخطئهم الذي ساهم في "عزلة" جيل كامل بل إنهم لن يهتموا حتى بالاعتراض وتفنيد "مزاعمنا". إنهم دوما أكبر من أن يدخلوا في جدل معنا "معشر الليبراليين المتغربين المنبهرين بأميركا وطابورها الخامس المستعد لخدمة ضغوطها لتغيير المناهج واستلاب الأمة من ثوابتها وإرثها الحضاري"، وهكذا استعرتُ خطابهم المعتاد الذي يحسمون به معاركهم وإن لزم الأمر، فلا بأس من قضية "حسبة" تلجم من تجرأ على الاعتراض و تلزم الساكت الصابر مكان